العلوم الإنسانية في زمن التحولات: دعوة لإعادة بناء الإنسان.

العلوم الإنسانية في زمن التحولات: دعوة لإعادة بناء الإنسان.

منذ أسبوع

بقلم : د. منى حمدي

العلوم الإنسانية في زمن التحولات: دعوة لإعادة بناء الإنسان.

 

في عالم تتسارع فيه التغيرات، وتشتد فيه الأزمات، ويعلو فيه صوت المادة على صوت القيم، تبرز العلوم الإنسانية لا بوصفها مجالًا معرفيًا فحسب، بل كحاجة وجودية عميقة؛ فهي التي تمنح الإنسان قدرة على الفهم والتأمل، وعلى تجاوز الضجيج الخارجي للعودة إلى ذاته، ومساءلتها، وتحديد موقعه في هذا العالم.

وكما قال الفيلسوف الفرنسي بول ريكور:

“الإنسان كائن يبحث عن المعنى، وكل ما نفعله هو محاولة فهم العالم وسرد أنفسنا فيه.”

وهنا تأتي العلوم الإنسانية كأداة لإعادة سرد الذات في زمن يتآكل فيه المعنى.

لسنا أمام مجرد تخصصات أكاديمية – كالفلسفة، وعلم النفس، واللغة، والتاريخ، والاجتماع – بل أمام مشروع متكامل يسعى إلى أن يُنقذ الإنسان من الاغتراب، ويعيد إليه علاقته المتزنة مع ذاته، ومع الآخرين، ومع العالم. في هذا المعنى، تصبح العلوم الإنسانية فعل مقاومة، وفضاءً للوعي، وأداةً لإعادة البناء الداخلي الذي لا غنى عنه في أي مشروع نهوض حضاري.

في سوريا، حيث ما زالت آثار الحرب والشتات والقلق قائمة، يصبح للعلوم الإنسانية دور أكثر عمقًا وتأثيرًا. ليس لأنها تقدم حلولًا مباشرة، بل لأنها تُعيد تكوين البنية النفسية والفكرية للفرد، فتُرمم التشوهات التي لحقت بالوعي، وتعيد ترتيب الأولويات، وتُصلح العلاقة بين المواطن وهويته، بين الإنسان وسيرته، بين الفرد وتاريخه.

قال مالك بن نبي ذات مرة:

“إن القضية ليست في كثرة القراءة، ولكن في كيفية تحويل ما نقرأه إلى معنى نعيشه.”

وهنا تكمن وظيفة الكلية: أن تُعلّم لا بالحقائق الجافة، بل بالقيم الحية والمعنى المتجدد.

كليتنا – كلية العلوم الإنسانية – لا تعمل فقط على تدريس المقررات، بل تسعى جاهدة إلى بناء الإنسان الذي يسائل، ويفكر، ويحاور، ويربط بين المعرفة والمسؤولية. فليس الهدف أن يخرج الطالب حافظًا للنظريات، بل أن يكون قادرًا على استخدامها لفهم واقعه، وللتفاعل معه بروح ناقدة، ووعي إنساني راقٍ، وإحساس بالمسؤولية.

العلوم الإنسانية تعلّمنا أن لكل مجتمع ذاكرة، ولكل ذاكرة سردية، ولكل سردية صوت، وإن أحد أدوارنا كأكاديميين وطلاب هو حماية هذه الذاكرة، وتفكيك السرديات المغلقة، وفتح المجال للتعدد والتنوع والتسامح. في زمنٍ يسهل فيه الوقوع في فخ الأحكام المسبقة والتعميمات، تصبح أدواتنا – كالتحليل، والقراءة المتأنية، والتفكير النقدي – درعًا يحمي الوعي من الانجراف نحو الاستقطاب أو العدمية.

قال إدوارد سعيد:

“الثقافة ليست ترفًا، بل هي الطريقة التي نُعرّف بها أنفسنا، ونفهم بها العالم، ونقاوم بها القهر.”

بهذا المعنى، تُصبح كليات العلوم الإنسانية حاضنة للمقاومة الهادئة، والوعي العميق، والنمو الداخلي.

نحن في لحظة فارقة، تُعيد فيها الإنسانية تعريف ذاتها في ظل طفرات التكنولوجيا، والثورات الرقمية، والانفتاح المفرط، والانعزالات النفسية. وهنا يبرز دورنا نحن – المتخصصين في العلوم الإنسانية – في أن نُبقي الإنسان مركزًا لكل مشروع، لا مجرد ترس في آلة. أن نُذكّر بأن المعرفة بلا قيم لا تُنير، وأن العقل بلا ضمير لا يُهدي.

إننا لا نُدرّس فقط، بل نساهم في بناء مجتمع جديد، أكثر وعيًا، أكثر اتزانًا، أكثر إنسانية. وهذه مسؤولية كبرى تتطلب منا جهدًا، وتفانيًا، وإيمانًا راسخًا بأن كل فكرة نزرعها اليوم قد تكون بذرة لمستقبل أفضل.

غير أن العلوم الإنسانية لا تزدهر إلا حين يجد طلابها أنفسهم شركاء حقيقيين في صناعة المعنى. فليست الكلية قاعات ومحاضرات فحسب، بل هي فضاءٌ حيّ، تنبض فيه الأسئلة، وتنمو فيه المواهب، وتُصاغ فيه الهوية الفكرية لكل طالب.

إن طلاب كلية العلوم الإنسانية لا يُنتظر منهم فقط أن يحفظوا، بل أن يُناقشوا، ويتفاعلوا، وينتجوا فكرًا جديدًا ينبع من واقعهم، وينفتح على العالم. وهنا يأتي دور النشاط الثقافي والبحثي في حياة الطالب الجامعي، ليس بوصفه ترفًا، بل ضرورة، تغذّي روحه، وتُثري شخصيته، وتربطه بمجتمعه.

ومن خلال المنتديات الطلابية، والورش الثقافية، والأنشطة الأدبية، والندوات المفتوحة، يمكن للطالب أن يختبر ذاته، ويجد صوته، ويتعلم كيف يختلف باحترام، وكيف يعبّر عن أفكاره دون خوف. كما أن هذه المساحات تُرسخ قيمًا جامعية نبيلة، كالنزاهة الأكاديمية، والمسؤولية، والانضباط، والتسامح، والعمل الجماعي.

قال باولو فريري، رائد التربية النقدية:

“الطلاب ليسوا أوعية تُملأ، بل شموع تُضاء.”

وهذه هي فلسفتنا في التعليم: إشعال الشغف، لا تلقين المعلومة.

إننا نؤمن أن الجامعة لا تُخرّج فقط أصحاب شهادات، بل تُخرّج مواطنين واعين، قادرين على التغيير، والقيادة، والبناء. وكلّ طالب يحمل داخله مشروعًا صغيرًا لحياة أكبر. ومهمتنا كأعضاء هيئة تدريس أن نُصغي، ونرعى، ونوجه، ونؤمن بإمكاناتهم.

دعوة صادقة:

فلنجعل من كليتنا – ومن كل مؤسسة علمية – فضاءً مفتوحًا للفكر، والحوار، والانتماء الصادق للحياة.

لنجعل من المعرفة جسورًا لا جدرانًا، ومن الكلمة ضوءًا لا صدى.

ولنُدرك جميعًا أن بناء الإنسان، في جوهره، هو أقوى سلاح في وجه كل خراب.

بتاريخ

06/19/2025

مقالات مشابهة